الأحد، 7 فبراير 2016

هل تعرف من هو المحارب الثالث عشر ؟

هل تعرف من هو المحارب الثالث عشر ؟ والذي شوه صورته الفيلم الغربي The 13th Warrior ؟
لن أكون متشائمًا إذا ما قلت أنه من بين كل عشرة آلاف فردٍ منّا سنجد إنسانًا واحدًا فقط سمع باسم هذا المغامر الإسلامي العظيم، ولن أكون متفائلًا إذا ما ادّعيت أن من بين كل عشرة آلاف سنجد خمسة عشر ألفًا يعرفون اسم السندباد! فجميعنا من دون أي استثناء سمع بقصص السندباد، ونصفنا على الأقل يفرق بين قصص السندباد البّري وقصص السندباد البحري، فتكون بذلك شعبية السندباد بين المسلمين تساوي 150 %، بينما تكون شعبية أحمد بن فضلان تساوي 0.01 % على أحسن التقديرات!
واللَّه إن العيب كل العيب أن نجهل تاريخ أبطالنا الحقيقيين إلى هذه الدرجة المخيفة! فسندباد ليس إلا شخصية خيالية وضعها المستشرقون لنا في كتاب قذرٍ مليءٍ بالقصص الجنسية المخجلة اسمه: "ألف ليلة وليلة"! وعلاء الدين الذي نروي قصصه لأطفالنا كل ليلة لم يكن قبل أن يعثر على مصباحه السحري إلا شابًا فاشلًا لم يعمل في حياته البتة! وعلي بابا الذي نغني باسمه ما هو إلَّا لصٌ سرق من اللصوص الأربعين ما كانوا قد سرقوه هم بالأصل من فقراء بغداد! ليُكوِّن هذا "الحرامي الواحد والأربعون" ثروته من أموالٍ حرامٍ! فأي قدوة ترجوها لطفلك وأنت تروي له مثل هذه القصص؟! وكيف لأمةٍ تريد النهوض بنفسها من سنوات الهوان والتبعية أن تردد على مسامع أطفالها قصصًا ساذجةً في نفس الوقت الذي تضيِّع فيه تاريخَ أبطالٍ حقيقيين مثل المغامر ابن فضلان؟ ولا أقولها تحيزًا أو عنصريةً، فلقد بحثت في كتب المتقدمين والمتأخرين، فما وجدت في تاريخ الأرض منذ نشأة آدم وإلى يوم الناس هذا عظيمًا واحدًا من عظماء الأمم والشعوب لديه عُشر مِعشار عظمة عظيمٍ واحدٍ من عظماء أمة الإسلام العظيمة! وأنا هنا أتكلم بنظرةٍ تاريخيةٍ بحتةٍ نابعةٍ من باحثٍ تاريخيٍ يزعم أنه قرأ تاريخ الحضارات من أول "الحضارة الصينية" التي أسسها الملك (شانغ) في الصين، إلى أيام "الحضارة الغربية" التي تسود العالم الآن، بل إني اكاد أجزم بأن تاريخ الأرض وتاريخ البشرية لا يساوي شيئًا على الإطلاق بدون تاريخ المسلمين، بل إن تاريخ الإسلام هو تاريخ الأرض نفسها!
ولقد خدعوك فقالوا لك في كتب التاريخ المدرسية أن "الحضارات قامت على ضفاف الأنهار"، فبربكم أي نهرٍ هذا الذي كان يجري بين مكة والمدينة عندما حمل محمد بن عبد اللَّه شعلة الحضارة الإنسانية ليضيئ بها ظلام الدنيا بأسرها؛ فهل سمع أحدٌ منكم نهرًا كان يُسمَّى نهر مكة؟ أو بحيرة الحارث بن حِلّزة مثلًا؟ وأي حضارة هذه التي قامت قديمًا على مصاب أنهار أوروبا اللامعدودة؟ فواللَّه لا أكاد أمر بمدينة أوروبية إلا وأجد فيها نهرًا أو نهرين يمران بها، بل إنني رأيت مدينة تجري بها ثلاثة نُهُرٍ!
وقصة مغامرنا الإسلامي -أحمد بن فضلان- توضح بشكلٍ بعيد مفهوم الحضارة ومقومّاتها، وفي نفس الوقت توضح لنا مدى القصور المعرفي المخيف الذي نحن عليه، فكيف لأطفالنا وشبابنا بل وحتى شيوخنا أن يجهلوا شخصية عظيمة مثل شخصية المغامر الإسلامي الرائع فعلًا أحمد بن فضلان، فحكايات هذا البطل العربي تفوق في غرابتها وتشويقها قصصر السندباد الخرافية، بل إن السينما الأمريكية والأوروبية صنعت له أفلامًا عالمية من شدة روعة مغامرته، كان أبرزها فلم أنتجته استديوهات السينما في هوليود سنة 1999 م اسمه "المحارب الثالث عشر، The 13 th Warrior"، وهذا الفلم بما يحمله من تشويه للقصة الأصلية لطلنا الإسلامي إن دلَّ على شيء فإنه يدل على إهمالنا الفظيع بتاريخنا وتراثنا الإسلامي، الذي استخدمه الغرب في أدبه وفنونه.
وتبدأ قصة بطلنا يوم الخميس الموافق الحادي عشر من شهر صفر لسنة 309 هـ الموافق لحزيران سنة 921 ميلادية عندما قاد عالم إسلامي جليل اسمه الشيخ (أحمد بن فضلان) بعثة دعوية خرجت من "بغداد" -عاصمة النور آنذاك- بتكليف من الخليفة العباسي (المقتدر باللَّه) رحمه اللَّه إلى قلب القارة الآسيوية تلبية لطلب ملك الصقالبة البلغار (ألمش بن يلطوار) الذي طلب التعريف بالدين الإسلامي، عله يجد تفسيرًا للغز الكبير المثار وقتها ألا وهو "كيف استطاع هذا الدين الآتي من قلب الصحراء أن يكوّن تلك الإمبراطورية الضخمة التي لم تضاهها أي إمبراطورية في تاريخ الأرض؟ "
وأستسمح القارئ الكريم مرة أخرى لأقف عند نقطتين مهمتين قبل أن نغوص في مغامرات بطلنا الشيقة.
(النقطة الأولى): كثيرٌ منّا للأسف يعتقد أن الدولة العباسية كانت دولة مفككة، والحقيقة أن هذا شيء عارٍ عن الصحة التاريخية، فلا شك أن الدولة العباسية -كحال كل دول الأرض- ضعفت في نهاياتها، ولكن الشيء الذي لا يعرفه الكثير أن أبرز علماء الأمة -بما فيهم البخاري نفسه- ظهروا في العهد العباسي، وكما كان الأمويين يرسلون البعثات إلى العالم للدعوة للإسلام تحت مسمى "رجال الملابس البيضاء"، فقد كان للعباسيين رحمهم اللَّه دعاة عُرِفوا في أرجاء العالم باسم "رجال الملابس السوداء"!
(النقطة الثانية): التشويه الرهيب الذي صنعه الغرب بتاريخ المسلمين ومن بينهم أحمد بن فضلان بطبيعة الحال، فالشيء المضحك المبكي في الأعمال الفنية التي صنعها الغرب لأحمد بن فضلان من روايات وأفلام، أنهم ادّعوا أن الخليفة العباسي "المقتدر باللَّه" رحمة اللَّه عليه إنما اختار ابن فضلان لهذه البعثة لكي يبعده عن عشيقته التي كان الخليفة الإسلامي متيمًا بها، وأنا لا أعجب من أولئك المزوِّرين الذين زوروا كتب اللَّه من قبل، ولكني أعجب من الشعوب الأوروبية والأمريكية من عوام الناس الطيبين، أليس بهم رجلٌ رشيدٌ يتساءل كيف للخليفه الإسلامي الذي يحكمها من شرقها إلى غربها أن يعجز من التخلص من رجل واحدٍ من رعيته بدون استخدام هذه الطريقة الرخيصة؟! والحق أقول أنني أضحك الآن وأنا أكتب هذه الكلمات، فلقد تذكرت الآن قصة وردت في "الكتاب المقدس" أعتقد أنها مصدر التحريف الذي وضعوه لابن فضلان، فهذه القصة متطابقة تمامًا مع القصة المحرفة التي وضعوها لصاحبنا، فهذه القصة الجنسية التي وردت في "الكتاب المقدس" في سِفر صموئيل الثاني [11: 1]، تدّعي زورًا وبهتانًا على نبي اللَّه داود -عليه السلام- أنه استخدم نفس هذه الحيلة الرخيصة لكي يشبع شهوته الجنسية، ففي يومٍ من الأيام وبينما داود يتمشى على سطح البيت، رأى من على السطح امرأة عارية تستحم، فأعجب بجمالها (كما تزعم رواية الكتاب المقدس!)، فأرسل وسأل عن المرأة، ليكتشف أنها (بشثبع بنت اليعام) امرأة (أوريا الحثى)، ولكن داود على حد زعمهم لم يأبه لكونها متزوجة، فقام باغتصابها، لتأتيه المرأة بعد ذلك لتقول له أنها قد حبلت، فقام داود بتدبير حيلة رخيصة للتخلص من زوجها (هي نفسها الحيلة التي ينسبونها للخليفة العباسي)، وأترك "الكتاب المقدس" ليكمل لنا هذه القصة التي يستحي القلم قبل صاحبه في إكمالها: "وَفِي الصَّبَاحِ كَتَبَ دَاوُدُ رِسَالَةً إِلَى يُوآبَ، بَعَثَ بِهَا مَعَ أُورِيَّا، جَاءَ فِيهَا: اجْعَلُوا أُورِيَّا في الْخُطُوطِ الأُولَى حَيْثُ يَنْشُبُ الْقِتَالُ الشَّرِسُ، ثُمَّ تَرَاجَعُوا مِنْ وَرَائِهِ لِيَلْقَى حَتْفَه، فأرسل داود وضم امراة اوريا الي بيته وصارت له امراة وولدت له ابنا" (ملاحظة مهمة: اكتشفت مؤخرًا من مناقشتي مع زميل شيعي أن الشيعة يؤمنون بهذه القصة المفتراة التي وضعها أبناء عمومتهم اليهود على نبي اللَّه داود، وأنهم يعتقدون أن داود كان زانيًا والعياذ باللَّه، وأن الذي أنقذه من الخطيئة هو إيمانه بولاية الأمة من أبناء شاه زنان بنت كسرى يزدجرد!!!)، الشيء المحزن الذي وجدته خلال بحثي في قصة هذا الداعية الإسلامي، أن الأدباء العرب قاموا بترجمة ما كتبه الغربيون عن ابن فضيل وكأنه قرآن منزل، فجعلوا منه صعلوكًا لا هم له إلا الزنى وشرب الخمر، فرددوا كالببغاوات ما يردده الغرب عن أبطالنا، لكي يغيروا مسار القصة من كونها بعثة دعوية قام بها داعية إسلامي، إلى قصة جنسية قام بها مسلم منحرف!
وبعد أن عرفنا مصدر الطعونات الجنسية التي يكيلها الصليبيون بين التارة والأخرى لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والرموز الإسلامية من هارون الرشيد وغيره جاء الوقت لكي نكمل مغامرتنا مع ابن فضلان. فقد توغل أبن فضلان في بلاد الروس حتى وجد أناسًا من "الفايكنج" وهي القبائل التي تسكن السويد والنرويج والدنمارك وإيسلندا، ولنترك ابن فضلان نفسه الذي جاء من بغداد رمز الحضارة الإسلامية يصف لنا ما شاهده بأم عينه:
"كان أعظم ما يعلمه أولئك القوم من الحلي هو الخرز الأخضر! يشترون الخرزة بدرهم، وينظمونه عقودًا لنسائهم. وهم أقذر خلق اللَّه لا يستنجون من غائط ولا بول، ولا يغتسلون من جنابة، ولا يغسلون أيديهم من الطعام، بل هم كالحمير الضالة، يجيئون من بلدهم فيُرسون سفنهم بإتل، وهو نهر كبير، ويبنون على شطه بيوتًا كبارًا من الخشب. ولا بد لهم في كل يوم من غسل وجوههم ورؤوسهم بأقذر ماء يكون وأطفسه. وذلك أن الجارية توافي كل يوم بالغداة، ومعها قصعة كبيرة فيها ماء، فتدفعها إلى مولاها فيغسل فيها يديه ووجهه، وشعر رأسه فيغسله ويسرّحه بالمشط في القصعة، ثم يتمخط ويبصق فيها، ولا يدع شيئًا من القذر إلا فعله في ذلك الماء، فإذا فرغ مما يحتاج إليه حملت الجارية القصعة إلى الذي جانبه ففعل مثل فعل صاحبه، ولا تزال ترفعها من واحد إلى واحد حتى تديرها على جميع من في البيت. وكل واحد منهم يتمخط ويبصق فيها ويغسل وجهه وشعره فيها. وساعة توافي سفنهم إلى هذا المرسى يخرج كل واحد منهم ومعه خبز ولحم وبصل ولبن ونبيذ، حتى يوافي خشبة طويلة منصوبة، لها وجه يشبه وجه الإنسان، وحولها صور صغار، وخلف تلك الصور خشب طوال قد نصبت في الأرض، فيوافي إلى الصورة الكبيرة ويسجد لها، ثم يترك الذي معه بين يدي الخشبة -ويقول لها: "يا ربي! أريد أن ترزقني تاجرًا معه دنانير ودراهم كثيرة فيشتري مني كل ما أريد ولا يخالفني فيما أقول"؛ ثم ينصرف. فإذا تعسر عليه بيعه وطالت أيامه، عاد بهدية ثانية وثالثة، فإنْ تعذر ما يريد، حمل إلى كل صورة من تلك الصور الصغار هديةً، وسألها الشفاعة، وقال: "هؤلاء نساء ربنا وبناته وبنوه"، لا يزال يطلب إلى صورة صورة يسألها، ويستشفع بها ويتضرع بين يديها، فربما تسهّل له البيع فباع، فيقول: "قد قضي ربي حاجتي، وأحتاج أن أكافيه". فيعمد إلى عدة من الغنم أو البقر فيقتلها ويتصدق ببعض اللحم، ويحمل الباقي فيطرحه بين يدي تلك الخشبة الكبيرة والصغار التي حولها. ويعلق رؤوس البقر أو الغنم على ذلك الخشب المنصوب في الأرض. فإذا كان الليل وافت الكلاب فأكلت جميع ذلك، فيقول الذي فعله: "قد رضي ربي عني وأكل هديّتي! " وإذا مرض منهم الواحد ضربوا له خيمة ناحيةً عنهم، وطرحوه فيها، وجعلوا معه شيئًا من الخبز والماء، ولا يقربونه ولا يكلمونه، بل لا يتعاهدونه في كل أيام مرضه لا سيما إن كان ضعيفًا أو مملوكًا. فإن برئ وقام رجع إليهم، وإن مات أحرقوه، فإن كان مملوكًا تركوه على حاله تأكله الكلاب وجوارح الطير. وكان يقال لي إنهم يفعلون برؤسائهم عند الموت أمورًا أقلها الحرق. فكنت أحب أن أقف على ذلك، حتى بلغني موتُ رجل منهم جليل، فجعلوه في قبره، وسقفوا عليه عشرة أيام حتى فرغوا من قطع ثيابه وخياطتها. وذلك أن الرجل الفقير منهم يعملون له سفينة صغيرة، ويجعلونه فيها ويحرقونها. والغني يجمعون ماله، ويجعلونه ثلاثة أثلاث. فثلث لأهله، وثلث يقطعون له به ثيابًا، وثلث ينبذون به نبيذًا يشربونه يوم تقتل جاريتُه نفسها، وتُحرَق مع مولاها. وهم مستهترون بالنبيذ يشربونه ليلًا ونهارًا، وربما مات الواحد منهم والقدح في يده. عندما يموت رجل جليل منهم، أو أحد رؤسائهم يقومون بوضعه في قبره ويقفلون عليه القبر لمدة عشرة أيام، حتى يفرغوا من تفصيل وحياكة الملابس اللازمة لهذه المراسم، مراسم حرق الميت، ومن ضمن هذه المراسم أن تحرق معه إحدى جواريه، فسأل سائل: من منكن يموت معه؟ فوافقت إحداهن طائعة راضية بمحض إرادتها، فهذا حسب معتقداتهم شرف لها، ومن لحظة موافقتها، تسهر بقية الجواري علي خدمتها، لدرجة أنهن يغسلن رجليها بأيديهن وهم يستعدون لتفصيل وحياكة الملابس اللازمة للحرق والجارية في كل يوم تشرب وتغني فرحة مستبشرة. ولما كان اليوم الذي سيحرق فيه الميت وجاريته، قامت الاستعدادات لذلك أمام النهر الذي ترسو فيه سفينته، التي يجري إعدادها بشكل فائق الجودة والبذخ بما فيه السرير الذي سوف يمدد عليه الرجل المتوفى، وتشارك في هذه المراسم، امرأة عجوز شمطاء، تسمي عندهم (ملك الموت) وهي التي تتولي قتل الجارية التي وافقت علي الموت مع سيدها وفي اللحظة المحددة يخرجون الميت من قبره، ويلبسونه سراويل جديدة، ويضعونه في الخيمة التي علي السفينة، ويجلسونه وقد اسندوه بالمساند، ووضعوا أمامه الفاكهة والريحان والنبيذ والخبز واللحم والبصل، ثم يقطعون كلبًا إلى نصفين ويلقونه في السفينة، ويضعون جنب المتوفى جميع سلاحه، ثم يجيئون بفرسين يذبحونهما بعد الغرق ويقطعون لحمهم بالسيف ويلقونه بالسفينة، ثم يفعلون الشيء ذاته ببقرتين وديكا ودجاجة، وأثناء ذلك تقوم الجارية التي سوف تحرق معه بالمرور داخل الخيم المنصوبة علي شاطئ النهر أمام السفينة، فينكحها كل صاحب خيمة ويقول لها: سلّمي على مولاكِ وقولي له إنما فعلت هذا حبًا به! وبعد حركات متعددة تقوم الجارية أمام الحضور مع العجوز (ملك الموت) لتصعد إلي السفينة، فتشرب النبيذ، قدحًا بعد قدحٍ، وملك الموت تقتلها بخنجر عريض النصل، والرجال يضربون بالخشب علي التراس، لئلا يسمع صوت صراخها، فتجزع بقية الجواري، فلا يوافقن بعد ذلك علي الموت مع أسيادهن، ثم يتم حرق السفينة بكل ما فيها: الرجل السيد المتوفى وجاريته المتوفاة، وكل الأشياء والحاجات التي تم جمعها في السفينة، في أثناء تلك المراسم العجائبية".
وبعد هذه المناظر الهمجية التي رآها ابن فضلان في مغامرته، صلى للَّه ركعتين شكرًا للَّه على نعمة الإسلام، وقرر الرجوع إلى البلاد الإسلامية وترك أولئك الهمجيين، واعتقد ابن فضلان أنه بعد مشاركته في مراسم الميت ودفنه، سوف يسمح له بالمغادرة، لكن ظنه خاب، فقد بدأ الصراع الداخلي بين زعماء أهل الشمال لخلافة الزعيم المتوفى، وانحصر الصراع بين زعيمين منهم. وكان كل واحد يحشد لمناصرته الأعيان وذوي النفوذ، ووإن أحدهما ويدعى (توركيل) يتطلع لمساندته ضد الآخر ويدعى (بولييف) في صراعهما علي الزعامة، خاصة أنه (توركيل)، كان طيلة الوقت يعتقد أن ابن فضلان مشعوذ وساحر يتمتع بقوة معينة، بسبب قراءته للقرآن وقيامه الليل، لذلك سمع ابن فضلان نصيحة الترجمان، وقرر البقاء وعدم اللجوء للهرب، لأنه سيعامل في حالة إكتشاف أمره كلص، حيث يقوده الناس إلي شجرة ضخمة، ويوثقون حبلا قويا حوله ويشنقونه ثم يتركونه معلقا حتى يبلي جسمه ويتناثر إربًا إربًا بفعل الريح والمطر. ثم حدثت مفاجأة غيرت من مجري الصراع على الزعامة، فقد وصل رسول من بلاد الشمال البعيدة "السويد" من قبيلة بولييف ليخبره أن هناك أخطارا جمة تحيق ببلاده البعيدة وأنه علي بولييف الاستعداد للعودة إلي بلاده
لإنقاذها من هذه الأخطار، فقام بولييف باستدعاء العجوز الشمطاء (ملك الموت) فقامت ببعض حركات الشعوذة لتخبر بعدها بولييف أنه دُعي من قبل الآلهة لترك هذا المكان بسرعة، وأن ينصرف كبطل لصد ما يهدد بلاد الشمال من الخطر، وأخبرته أيضًا أن فريقه كاملا يجب أن يكون مؤلفًا من ثلاثة عشر محاربًا أحدهم من غير أهل الشمال، لذلك كان الثالث عشر غير الشمالي هو أحمد بن فضلان، ومنذ تلك اللحظة حمل صفة المحارب الثالث عشر، رغم كل الاعتذارات والتبريرات التي قدمها لاستثنائه من تلك المهمة، لذلك كانت هذه الحالة الإجبارية كارثة حقيقية لابن فضلان، مما حدا به للقول: "بالنسبة لشخصي اعتبرت حالي كحال الشخص الميت".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق